كان يا ما كان في القدس

تاريخ النشر

13 Aug 2025

الكاتب

منى علام

شارك

عرض كتاب "كان يا ما كان في القدس" للدكتورة سحر حمودة، الصادر عن المركز القومي للترجمة عام ٢٠١٧.

 

ربما أول ما يتبادر إلى الذهن حينما يُذكر اسم مدينة القدس، المدينة ذات التاريخ العريق التي قامت لأجلها المعارك وكانت محل أطماع، والتي تضم المقدسات الإسلامية والمسيحية. لكن، وككل مدينة أخرى، فما بالنا بمدينة بهذا التاريخ الثري، هناك العديد والعديد من قصص البشر والعائلات التي عاشت في المدينة على مر عصورها، وتأثرت بالأحداث التي مرت عليها، وكان لها جوانبها الاجتماعية والشخصية، من رجال ونساء، وأطفال كانت المدينة المقدسة، بحرمها، وطرقاتها، مرتعا للعب، مثلما كانت بالنسبة لشبانها ساحة للمقاومة

 

حكايات الأمهات تبني الانتماء 

هذا ما قصدت إليه الكاتبة سحر حمودة، أن تسجل جوانب من تاريخ عائلتها، وهي واحدة من أشهر العائلات المقدسية، كما روتها لها والدتها

لقد شارك في وضع هذا الكتاب، القصير لكن الغني، كما تقول الكاتبة في المقدمة، أعضاء آخرون من العائلة "ممن سكنوا الدار أو انتموا إليها وإلى عائلة الفتياني على نحو ما من ناحية الأم أو الأب".

لقد بُني الكتاب بالأساس على حكايات الأم عن حياتها في القدس العتيقة وبيت عائلتها، تلك الحكايات التي غذّت بها ذاكرة وخيال ابنتها عن تلك الأرض التي تعيش بعيدة عنها "محجوبة بالحدود والأسلاك الشائكة" كما تقول الكاتبة في المقدمة. قصص الأمهات عن المكان والتاريخ العائلي تربط أبناءهن وبناتهن ببلادهن التي أجبر آباؤهم/ن وأجدادهم/ن على تركها، بعكس من لا يجد له انتماء أبعد من البلد الذي هُجّر إليه أهله ووُلد هو فيه أو نشأ صغيرا وطالت إقامته به، بحيث لم يعرف بلدا غيره، وانقطع عن البلد الذي يعود إليه انتسابه الأصلي.

 

 تمثّل الأم، التي توثّق لها الابنة، الراوي الرئيسي، بينما تُسهم الابنة ببعض التعليقات التي جاءت نتيجة بحث عميق قامت به وكتب بخط مختلف.

 

عمارة الدار

في أول فصول الكتاب تبدأ الكاتبة بوصف مفصل لبناء الدار، دار الفتياني، والطريق المؤدي إليها التي يُدخل إليه من ساحة الحرم الشريف، حيث يصعد الداخل عددا من السلالم ليصل إلى فناء أمامي مستطيل ومنه إلى ممشى طويل مظلم، يضم في جانبه الأيسر غرفة صغيرة بها قبر وليّ مغطى بكسوة خضراء مطرزة بخيوط من ذهب وحولها مصابيح زيت مضيئة ليلا ونهارا، وهذا الولي الذي يُعَد مصدرا للبركة هو من أبناء العائلة

وعند الوصول إلى صحن الدار نجده فسيحا مبهجا بهوائه العليل وأزهاره وتكعيبات العنب وأشجار الليمون، ومن الصحن إلى سطوح السلطانية حيث رؤية بانورامية للحرم الشريف والمسجد الأقصى وقبة الصخرة، وفي الخلف جبل الزيتون بكنائسه وأديرته. وكلمة دار في الثقافة الفلسطينية تعني المنزل كبناء مادي وكذلك العائلة كقرابة أو انتساب.

وكان من وظائف آل الفتياني، حيث لكل عائلة مقدسية وظيفة أو مهام أو مجال تميُّز عُرفت به، استقبال حجاج المدينة الآتين شمال أفريقيا، والأفغان والأكراد، لزيارة معالم المدينة المقدسة. تقليد لم يستمر في دار العائلة التي باتت كالمدينة محاصرة تدنسها "نعال العسكر"، بعد نكبة 48.

 

حياة النساء في القدس

من الجوانب التي يثيرها الكتاب أيضا جوانب من حياة النساء في القدس في تلك الحقبة الزمنية.

الاسم الكامل لوالد الأم وجد الكاتبة هو عبد الحميد عبد الرازق عبد الرحمن الفتياني، ووالده عبد الرازق كان جابي ضرائب لصالح الإمبراطورية العثمانية ومسئولا عن قرى القسطل وعين كارم وسطاف. قرية سطاف، كما تعلق الكاتبة، الذي كان عدد سكانها يبلغ عام ١٩٣١ ، ٣٨٣ نسمة، قد محتها إسرائيل من الوجود في يوليو ١٩٤٨ إذ لم يبق منها شيء سوى بعض من مبان مهدمة، وشتّت أهلها. وتذكر الكاتبة أن جد الأم عبد الرازق قد تزوج من سطاف ثماني نساء، "فالقرويات جميلات وممشوقات القوام وكثيرات منهن عيونهن زرقاء".

وتسجل أن هؤلاء الزوجات لم يكن يسمح لهن بدخول دار الفتياني، الذي هو مقتصر على الزوجة الرسمية "سليلة العائلات المقدسية النبيلة"، ولا كان لأولادهن الحق في حمل اسم العائلة. بل كوّنوا قبيلة عُرفت بأولاد عبد الرازق و"أقاموا في قريتهم في الجزء الأعلى بجبل سطاف".

بينما تزوج الأب عبد الحميد في الثلاثين من عمره، وهي سن متقدمة للزواج آنذاك، وكانت الزوجة مفتية في الثانية عشرة من عمرها. كانت هادئة متواضعة، بينما الزوج مستبد يُملي على البيت نظاما عسكريا مرعبا. وكانت له زوجة ثانية هي فاطمة سعودية نسبة إلى عائلة أمها أبو السعود. وعلى الرغم من اختلاف شخصيتيهما، صارتا صديقتين

دعت فاطمة مفتية ذات مرة بعد خروج الزوج إلى اصطحابها لزيارة بعض أقاربها، دون إخبار الزوج، تردّدت مفتية ثم وافقت، وحين رجوعهما كان عبد الحميد قد سبقهما وحكم عليهما بقضاء الليل خارج بوابة المنزل المغلقة، طوال الليل، عقابا على ما اقترفتاه.

ورغم الحياة المحافظة للغاية في القدس كما تقول الكاتبة، كان هناك، ككل مجتمع بشري، قصص لمقدسيات اتبعن سلوكا مختلفا، مخالفا للتقاليد والقيم، مثل المرأة التي كانت تحب قريبا لها أصغر منها، ولكي تُبقي علاقتهما طي الكتمان، دبّرت له زواجا من عروس صغيرة ذات طيبة وسذاجة هي التي اختارتها، وأقامت معهما في المنزل بحجة الاعتناء بها لتستمر صلتها بالرجل. ومثل الزوجة التي كان لها علاقة مع ابن شقيق زوجها، حيث كان الأخوان يقيمان في المنزل نفسه.

 

طوائف وجنسيات متعددة

كذلك يشير الكتاب إلى الطوائف الدينية المتعددة في القدس، والعلاقات الطيبة والقبول والتعايش بين الجميع، مثال ذلك استدعاء والد الأم عبد الحميد الفتياني ليضع النجمة النحاس على أرضية كنيسة المهد في بيت لحم وذلك منعا للخلاف بين الطوائف المسيحية للظفر بشرف وضعها، كذلك كانت مفاتيح كنيسة القيامة منذ عهد صلاح الدين في عهدة عائلتين مسلمتين هما دار نسيبة ودار جودة.

 كما كانت مدينة كوزموبوليتانية، نظرا لقدسيتها، جذبت أناسا من الديانات الثلاث.

كان في المدينة مسلمون من الهند وأفغانستان والعراق وإيران والحجاز والأردن وسوريا وتركيا وبلدان آسيا الوسطى، ومصر وإثيوبيا وتونس والمغرب. والمسيحيون بطوائفهم: اليونان الأرثوذكس، واليونان الكاثوليك، والكاثوليك اللاتين، والفرنسيسكان، والدومينكان، والأرمن، والأقباط...

وكان يحدث زواج من يهوديات، كما فعل ابن عم للأم، وأنجب منها ولدا، ولكن عندما قامت دولة إسرائيل غادرت تلك الزوجة اليهودية إلى هناك مع ابنها.

 

بيروت حيث الأدب والفن والحرية

 بطبيعة الحال يتطور وضع النساء عبر الأجيال، فمن حياة محافظة مغلقة، وزواج مبكر وعدم إكمال تعليم كما حدث مع شقيقات الأم الأكبر منها، كان للأم مسار مختلف، فقد سافرت إلى بيروت للدراسة، وفي الفصل المعنون بالنكبة، تحكي الأم: "حين انتهيت من دراستي في كلية شميت للبنات أصبحت تعيسة لأنه لا توجد جامعة في القدس أذهب إليها، اشتكيت لزوجة أخي عدلة التي كانت تكبرني بخمس سنوات أو ست، فقالت متسائلة: هل أطلب من طاهر أن يرسلك إلى بيروت؟" وتكمل "كانت بيروت تبدو طريفة بالنسبة للمقدسيين، الذين لا يخرجون من المنزل إلا للجنازات، على كل، إذا لم يكن مسموحا للفتيات السفر بمفردهن من مدينة إلى مدينة أخرى، فكيف يسمح لي أن أذهب إلى بلد آخر؟ بالطبع كان هذا مستحيلا. ولكن حدثت المعجزة ووافق طاهر، وانتشر الخبر بين العائلات كالحريق..".

بيروت، كما تصفها الأم، مدينة الأدب والفن والحرية المناقضة ل"تعصب القدس"، فبذهابها من فلسطين /القدس، إلى لبنان/ بيروت تكون قد عبرت إلى عالم مختلف

 

الرقص والرسم وسط أحداث قاسية في المدينة البعيدة 

كحيلة نفسية، وعلى سبيل الاعتراف الذي يعكس إحساسا بالذنب، تقول الأم إنها شاركت أثناء وجودها في بيروت في حفلات راقصة "بينما كان الناس يُذبحون في القدس وقراها المجاورة" وتفسر ذلك بالقول "كنت شابة وحاولت بناء سد ضد الكارثة المتوقعة التي ستمزق حياتنا، أغرقت موسيقى الفالس بكاء النساء اللواتي فقدن أبناءهن وبناتهن، أزواجهن، آباءهن وأمهاتهن، أبناء خالاتهن وأعمامهن وأخوتهن..".

جرّبت أيضا الهروب بالرسم "رسمت ولكن رسمي كان كئيبا، حاولت أن أقبض على لحظات الأمل والحرية السريعة، ولكن اليأس كان ينشر كآبته على قماش الرسم وكانت ظلال غير مفهومة تكسو نضارة وجوه البنات التي أرسمها".

 وتزامن الفصل الدراسي الأخير في كليتها بانتهاء الانتداب الإنجليزي على فلسطين، ليُعلن بعدها إنشاء دولة إسرائيل، بالقتل الجماعي والتشريد من المنازل بالقوة، وكانت هي لها مأساتها الشخصية بمحاولة تدبير الدفعة الأخيرة من الرسوم الدراسية.

لاحقا توجهت لمصر، التي كان لبعض أفراد عائلتها تردد عليها وإقامة فيها، والتحقت بالجامعة الأمريكية بالقاهرة.

 

الخروج ذعرا

وعن الخروج من فلسطين تحكي الأم أنه "كان قد بدأ قبل إعلان دولة إسرائيل رسميا عام ١٩٤٨، وكان اغتيال المدنيين الأبرياء المستمر وتدمير القرى عن آخرها قد جعل الفلسطينيين يخشون على عائلاتهم، فمن يدري متى ستهاجم العصابات بعد ذلك؟ فمع مذبحة دير ياسين، انتشر الرعب في البلاد وبدأ الشتات الفلسطيني الذي لم ينته حتى هذا اليوم. نسى العالم دير ياسين، ولكن بالنسبة لنا، فإنه الذعر الذي دفعنا للرحيل من منازلنا، فالنساء والأطفال وكبار السن في القرية قد ذُبحوا في إبريل ١٩٤٨ من قبل عصابات شتيرن والأريجون بقيادة مناحم بيجن مما جعل الآلاف يخشون على حياة أولادهم ويبحثون عن ملجأ مؤقت في الأقطار العربية المجاورة.".

 

من يافا إلى بورسعيد

من هؤلاء عمها أبو سعيد ببناته الست، والسيدة أم علي، التي تروي ابنتها سهام قصة هروبهم من يافا إلى بورسعيد عبر البحر، وكان مما روته: ".. عند وصولنا إلى الميناء وجدناه مكتظا بعائلات خائفة وأطفال يصرخون، ومنهم الذين لم يتمكنوا من الإمساك بأيدي آبائهم أو أمهاتهم فانفصلوا عنهم. نظر والدي إلى السفينة التي كان من المفروض أن تقلنا إلى مصر، كانت مركبا لا تستوعب أكثر من ٦٠ شخصا، كان هناك المئات منا في انتظار أن يحملوا على مركبتين متماثلتين.. بدأ الكثير من الناس يركضون نحو المركب، ووقع بعض الأطفال في الماء حينما حاولوا أن يركبوا.. انحشرنا وانتهينا في قاع المركب، لم تتمكن والدتي من نطق كلمة وداع لوالدي الذي وقف على الرصيف هاتفا بأننا سوف نعود في بحر ثلاثة أو أربعة أسابيع. كان الجميع يعتقد ذلك.. جلسنا على الأحبال الغليظة في قاع المركب، مثل الفئران المذعورة، نتقيأ على بعضنا بعضا. استغرقت الرحلة إلى بورسعيد ثلاثة أيام.. كنا محظوظين لأن المركب الأخرى غرقت بمن فيها من حمولة البشر بعد ساعات قلائل من إبحارنا خارج يافا ..".

 

حتما سنعود

 الفصل الأخير بعنوان الحياة في الشتات، يُختم بفقرة دالة. إبنة الأخ طاهر زارت القدس ذات صيف والدار العتيقة بها، كانت تبكي وتقول "والدي ليس مدفونا في القاهرة، إنه مدفون هنا.. في هذه الدار". لتكون الجملة الختامية للكتاب: "قد تكون عظام طاهر الفتياني باقية في المدافن هنا، ولكن روحه طارت إلى الديار، حيث سنذهب جميعا بالتأكيد".

 

 

يمكنك شراء نسختك من المركز القومي للترجمة، 1 شارع الجبلاية، الجزيرة، ساحة دار الأوبرا، القاهرة.


نبذة عن الكاتب
كاتبة وصحفية من مصر