الياس خوري والحرب وغزة وجنرالات التا(ء)ريخ

تاريخ النشر

10 Feb 2025

الكاتب

عبد الله البيّاري

شارك

خلال عملي المؤسسي في أرشفة التاريخ الفلسطيني (أو ما كان حينها يسمى مشروع أرشفة وتوثيق تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية)، اضطررت أن أدافع عن فكرة بسيطة: هل السرد الأدبي وثيقة تاريخية و/أو أرشيفية؟ وعلى بداهة السؤال، أتت فداحة الإجابة مغموسة بكثير من الأيديولوجيا الحداثية: لا!

أثير الأمر في معرض دراسة وثيقة لأحد الأسرى، يتناول فيها أدب الأسرى وما يقرؤه الأسرى في الأسر. اقترحت في حينه إضافة كلمات مفتاحية بأسماء الروايات والأعمال الأدبية، فكان الرد حينها: لا علاقة للأدب والسرد بـ"تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية". أتذكر حديثي عن تلك الحادثة -من العديد من الحوادث الفاضحة والمؤسفة!- مع حياة إلياس (في فلسطين نقول "حياة" قبل اسم المتوفى في شكل من أشكال مقاومة الموت!)، وأتذكر جيّدًا رده حينها:

"يا عبد الله.. بدنا نسأل هول العالم ليه بدهن يكتبوا تاريخ الحركة الوطنية!".

فتحت هذه الجملة من حياة إلياس (مرة أخرى!) أبوابًا كثيرة في عقلي، لم أكن أستطيع أن أغلقها حتى الآن، بشأن عالم الأرشفة ومشاريعه الفلسطينية، ومآسيه وجنرالاته ودجّاليه. بعدها سافرت إلى الولايات المتحدة الأمريكية لأقدم ورقة بحثية في مؤتمر جامعة براون الأمريكية السنوي، عنوانها: "الرفض في الأرشفة: لماذا تبتعد فلسطين بكل مشروع أرشفة!" (بالإنجليزية). حاولت في هذا البحث، ولا زلت، الإجابة عن سؤال إعادة إنتاج فلسطين في الأرشفة والتاريخ والسرد، وكيف أن تلك الذكورية الطافحة (أو الفحولة، لنقل!) التي ترى في الأرشفة والتأريخ الفلسطينيين "عمل دولة"، في وقت تتكالب فيه كل دوّل العالم تقريبًا على فلسطين، حتى لو كان ذلك على حساب رأي مجتمعاتها ومواقفهم من دولهم!

الأمر أشبه ما يكون بمحاولة لإنتاج فلسطين من خلال ذكورها الألفا فقط، لينتهي الأمر بمذكرات وأوراق عن قادة وسياسيين، وليس عن فلسطين التي تموضعت في الصف الثاني من المسرح. الأمر يشبه في جزء كبير منه، هكذا قلت لإلياس، محاصرة الذات الإلهية بـ99 صفة واسم مذكرين، فلا نعود نرى الإله بمعانيه المطلقة إلا من خلال لغة ذكورية فحولية تحاصره. الأمر ذاته مع "فلسطين": تحاصرها مجموعة من الذكور المرتبطة بأنواتها حصرًا، وتحاول "إعادة إحياء ذكورة سياسة ما عادت فاعلة"، حتى لو أرادوا لها ذلك على حساب المقاومة في غزة. تلك المقاومة التي تنبّه فيها إلياس إلى أن المقاومين فيها يكتبون التاريخ معطين العالم ظهورهم وهم يقبلون على الدبابات وآليات الجيش الإسرائيلي وجنوده، ما يضع فريق الذكور الألفا في أزمة هوية: كيف يكتب تاريخ فلسطين في هذه اللحظة الحاسمة من لا يمكننا حصر ألقابه ومناصبه ومواقعه ونياشينه؟!

يقول إلياس في كتابه "النكبة المستمرة": "في حكايات هذه النكبة، مثلما يرويها ضحاياها وبعض جلاديها، علينا أن نصدق ما لا يصدق، وأن نتأقلم مع فكرة أن الحدود بين الحقيقي والخيالي قد دُمرت!"(خوري، 2024، ص 21).

أثارت فكرة إلياس عن "النكبة المستمرة" الكثير من الضيق لجنرالات الأرشفة والتأريخ، لأنها توظف أدوات منهجية في دراسات نزع الكولونيالية التي واجهت سرديات التأريخ الكولونيالي، تلك التي موضعت "الدولة الحديثة" باعتبارها الاستعارة الوحيدة والأساسية لكل أشكال الوجود السياسي، معتمدة على منهجيات أرشيفية تؤلّه الفرد والحزب والقيادة والسلطة والبنى الهرمية، بداية من اللغة، وتفترض انفصالًا ما بين ما حدث وما يحدث، وتقدم لنا منهجيات أرشفة وتأريخ معقّمة بادّعاء الحياد، في حين أن أرباب هذه المقولة الفارغة يعلمون تمامًا أن الأرشيف لا يمكن أن يكون محايدًا؛ فالحياد هنا تماهٍ مع الاحتلال والمنهجيات الغربية التي تعاملت مع الذوات المستعمرة باعتبارها كيانات مادية، وليست حيوات مستمرة. يعود إلياس في كتابه المشار إليه للقول:

"هل نحن أمام ذاكرة ترفض النسيان، أم أمام حاضرٍ صارت ذاكرته جزءًا من تجربته وحياته اليومية؟" (خوري، 2024، ص 15).

في محاولة للإجابة عن سؤال السرد والتاريخ والتأريخ، يتنبه حياة إلياس خوري إلى ما لا ولن يراه جنرالات الأرشفة: "انبثق تعبير النكبة المستمرة من مرحلتين: المرحلة الأولى، خلال عملي الميداني والبحثي من أجل كتابة روايتَيّ: ’باب الشمس‘ و’أولاد الغيتو‘" (خوري، 2024، ص 16).

والروايتان لهما موقع بالغ الأهمية في النضال والتاريخ الفلسطينيين وعلائقه العربية والنضالية العالمية، والأهم في علاقتهما -وسائر إرث حياة إلياس خوري- بما يجب أن يكون عليه التأريخ الفلسطيني؛ فباب الشمس التي استخدمها، استعاريًا، مناضلون ضد الاستيطان في فلسطين، لإنشاء قرية تحمل الاسم نفسه في المنطقة E1 (وفق التصنيف الإسرائيلي)، والتي سطا عليها الاحتلال في الضفة الغربية لمصلحة مشروع استيطاني يفصل القدس تمامًا عن الضفة الغربية، ويقسم الضفة إلى جزأين، حيث من المقدر في حينه أن تبلغ مساحة الأراضي المصادرة لصالح مشروع E1 قرابة 13 كيلومترًا مربعًا، حيث يقيم عدد كبير من التجمعات البدوية، مثل عرب السواحرة وعرب الجهالين وغيرهم، وتتبع أجزاء أخرى من هذه الأراضي لبلدات مقدسية مثل العيساوية والعيزرية والطور وعناتا وأبو ديس.

أما "أولاد الغيتو"، فهي مشروع إلياس الذي يعرّي استعمارية اللغة والمخيال والتاريخ ويفكّكها. حيث تكشف هذه الرواية عن خطّ تاريخيّ تمرّ عبره ثلاثة تقاطعات/مرايا نقدية، في مركزها النكبة الفلسطينيّة، ثم الهولوكوست، وأخيرًا مسألة اليهود العرب ممّن هاجروا إلى ’أرض الميعاد‘. فنجد آدم دنّون‘ - الشخصيّة المركزيّة في الرواية - الفلسطينيّ المولود في غيتو اللدّ في عام النكبة، هاربًا من ’التراوما‘ (الصدمة)، وهي أحد مزاعم الحداثة الدولانية فيما يتعلق بالأرشفة بأنها تروّض الصدمة، بكونها عملية عقيمة، أو بلغة جنرالات الأرشفة "محايدة". يزور آدم وارسو متواريًا؛ ليجد نفسه في كلّ مرّة أمام الذاكرة، أو المرآة.

تحوّل الحقيقة آدم دنّون شاهدًا، والأرشفة يفترض بها فعل الشهادة، ولأن الموقعية الفلسطينية المفترضة لأي أرشفة يجب أن تجعلها عملية أرشفة تحررية وليست محايد/ة، فإننا نرى آدم وحياة إلياس، يرويان ويوثقان النكبة وحكاياتها من اللدّ إلى حيفا، وإلى يافا، ثم إلى منفى آدم، الفلسطيني الأخير في نيويورك. أدت هذه الصدمة إلى الدفع بآدم للنضوج فلسطينيًا في مواجهة تاريخه الشخصي والجمعي. فنجده يكتب كميكانزيم دفاعيّ مضادّ لثلاثة أشكال من عجز اللغة: الغضب، والنسيان، والصمت؛ لتواجه الرواية سؤالين عميقين يتعلّقان بدور الكتابة أمام الحقّ والحقيقة: سؤال التاريخ وسؤال الأدب. لتكن هذه هي إجابة إلياس المتنورة بشأن ما إذا كان السرد الأدبي وثيقة تاريخية وأرشيفية. حيث اعتمد خوري في مبناه السردي على الشهادات الحقيقيّة التي سمعها وقرأها وشاهدها، في محاولة لأرضنة ظروف جماليّة ونقدية نازعة للكولونيالية تخترق النوع الأدبي الروائي؛ فتصبح هذه الرواية "محاولة اعتراضيّة على الأدب أكثر ممّا هي عمل أدبي"، في العلاقة مع التاريخ والتأريخ، للقضايا العادلة.

في الوقت الذي يصاب فيه هذا العالم بالعقم في مواجهة الموت الولّاد في غزة، يصرّ كثيرون على حزن لا يليق إلا بالنهايات، وإعادة إحياء موتٍ لا مناص منه لكيانات اهترأت، باسم حياة ومقاومة جديدة تبزغ من غزة، وتفرض رؤاها وضياءها علينا. لعلنا الآن أحوج ما نكون إلى رؤى حياة إلياس التي زرعها في أرض خصبة، لولا غزة ولحظتها، لما أزليت غماماتها عن بعض العقول.

 

.مقال منشور على موقع مجلة رمان الثقافية https://rommanmag.com/archives/34860


نبذة عن الكاتب
باحث وكاتب فلسطيني مصري في مؤسسة الدراسات الفلسطينية، وأكاديمي محاضر في عدد من الجامعات والمراكز البحثية العربية، عضو مجلس تحرير مجلة الدراسات الفلسطينية. وهو محاضر في الدراسات المكانية والحضرية في معهد العمران للدراسات التطبيقية – أفريقيا والشرق الأوسط، وعضو باحث في المجلس العربي للعلوم الاجتماعية، وGeographical Association وUrban Affairs Association و Middle Eastern Studies Association.