عمان في 19/9/1956
أوتيل فيلادلفيا
الغالية سميحة
......................................................
زارني عدد كبير من أصدقائي فأنست بلقائهم وكانت فرصاً للتحدث عن الماضي وما فيه من ذكريات حلوة وعظات بالغات. لقد جاءني عاتباً مصطفى الطاهر صاحب المكتبة في يافا وناشرها القديم مقسماً على أنه لم يدر أبداً بقدومي. لقد كان لقاؤه حاراً كله وفاء... مسكين مصطفى لقد لقي العديد من الصعاب في السنوات العشر الماضية ففقد جزءاً كبيراً من مكتبته كما استشهد أخوه في معركة فلسطين... ثم سُجن وأُبعد إلى أن أستقر أخيراً في عمان يعمل كما كان في الماضي ناشراً وبائع كتب!
..................................................
زارني منذ أيام أخونا أكرم زعيتر ليدعوني إلى نابلس حتى تتاح له – على حد قوله – فرصة صغيرة للرد على اللطف الذي يدعي بأننا غمرناه وعائلته فيه... فوعدته خيراً مؤجلاً الدعوة لفرصة مناسبة أخرى... لقد تشعب الحديث مع أكرم فعدنا بالذاكرة إلى السنة التي زاملته فيها في عكا - سنة 1929 – عندما كانت النفوس مشبوبة العاطفة، متقدة الحمية، فذكرنا ثورة 1929، وذكرنا شهداءنا الزير وحجازي وجمجوم ويوم الثلاثاء المشؤوم في عكا عندما عُلّق هؤلاء الأبرار على أعواد المشانق لا لذنب جنوه الا الدفاع عن كرامة الوطن وتأخير الكارثة وأجل البلاد المحتوم... كما ذكرنا، كيف كنا لا نستطيع المُضي في التدريس والنار مندلعة في البلاد والسجون تغُصّ بالأحرار والمظاهرات قائمة قاعدة... لقد كانت أياماً سوداء... مظلمة قاتمة ولكننا لم ندرك وقتذاك أنها كانت نذير الكارثة وطلائع الانهيار...
ولست أدري كيف عدت معه بالذاكرة إلى عام 1920 عندما كنت في القدس غلاما صغيرا لا يدري من أمور بلده ومستقبلها شيئاً... وكيف دسست نفسي وحشرتها بين جموع المتظاهرين في باب الخليل فتطلع إلى عارف العارف وبجانبه الحاج أمين – وكان متطربشاً – لنسمع من رجال النادي العربي إعلان استقلال سوريا وتتويج فيصل رحمه الله ملكاً عليها... مازلت أذكر حماس الناس وغليان الشعب ولو أنني لم أدرك السر فيه تماماً إذ أن كلمات " استقلال ومظاهرة وحماية وإنتداب ووطن " كانت لا تزال تعبيرات جديدة نبتت على أعقاب الحرب العالمية الأولى...
طغا حماس الناس وإذا بيهودي يمر بجانبي اسمه الذي لم يغب حتى الآن عن ذاكرتي – كرامر- فهزأ هذا الكرامر من هتاف الشعب وكان أن قامت يومها أول اضطرابات في فلسطين وأول صيحات في سبيل حياتها... بل وكان ذلك الدم الذي سال تحت شرفات النادي العربي أول دمٍ سال في العراك الدامي الطويل الذي انتهى ويا للأسف بضياع الوطن بعد ثلاثين سنة من ثورات متلاحقة...
لست أدري لم تذكرت كل هذا وأكرم جالس أمامي... ولكنه الخطر الذي يهددنا ثانية... أو بالأحرى يهدد البقية الباقية من وطننا... هو الذي أعادني الطفل الغرير الذي كان أول شاهدٍ للدماء التي أسالها عرب فلسطين دفاعاً عن فلسطين...
..................................................
زوجك علي شعث