المدينة عمان

العائلة شعث

تاريخ الرسالة 27 سبتمبر 1956

تاريخ النشر 20 مايو 2023

message

عمان في 27/9/1956
أوتيل فيلادلفيا
الغالية سميحة 
......................................................
قرأت منذ بضعة أيام في جريدة فلسطين خبرين أثاراني وأعادا أمام مخيلتي ذكريات سعيدة تجلب الكثير من الطمأنينة وهناءة الضمير... كان أولهما عن إقامة قداس على روح الطيب الذكر أنطون الحلبي... رجل الأعمال الكبير والوطني المثالي في وطنيته... فعادت بي الذاكرة إلى عام 1923 عندما جاء الصيدلي أنطون الحلبي يدرسنا الكيمياء في كلية الكردينال فراري في القدس. كنا بضعة أشخاص تمثلنا الصورة المعلقة في البيت – خلوصي الخيري ونظيف الخيري وأنا وثلاثة آخرون... فتلقيت على يديه أول دروس حقيقية في الكيمياء حببت هذا العلم إلى نفسي... لقد كان أستاذا " عظيما " فيه إخلاص العلم ونبل كبار النفوس وعطف الأخ يحرص على مصلحتنا بالرغم من غناه وعدم حاجته للتعليم... لقد كان بيته مثابةً لنا ووقته ملكنا لم يرزق بأولاد فصبّ عطفه في نفوسنا... ودرجنا معه عامين طويلين نلت في نهايتهما المتريكيولشن وعملت مدرسا في صفد ثم أرسلت في بعثة إلى الجامعة ولكن عقبة كؤود وقفت في سبيل هذه البعثة إثر إصرار الحكومة على أن أتدبر كفيلاً مالياً موثوقاً يوقع العقد معي ويكفلني في أن أعلّم في الحكومة خمس سنوات بعد تخرجي أو أدفع 400 جنيه... وهو مبلغ جسيم ضخم في عام 1926.. لقد رفض الكثيرون من الأقرباء والأصدقاء على التوقيع وبت قلقاً على مصير البعثة ومستقبلي خصوصا عندما أعطيت بضعة أيام مهلة لإيجاد الكفيل أو تفلت مني هذه النعمة فذهبت أحوم في القدس وأجول على غير هدى وإذا بي التقي بأنطون رحمة الله عليه في مكتبة بولس سعيد – وكان قد مضى على غيابي عنه سنة كاملة – فأقبل عليّ بلهفة يسلم بحرارة ويسألني عن أحوالي ويهنئني بالمترك... فقصصت عليه الأمر دون أن أتوقع شيئاً منه البته وإذا به رحمه الله يقول " إخص عليك يا علي... أتنسى أنني موجود وأنه يسعدني أن أقوم بخدمة صغيرة لك... تعال... تعال إلى إدارة المعارف حالاً.." وأخذني واضعاً ذراعه بذراعي يشجعني ويتحدث إلىّ – طوال الطريق – عن الجامعة التي تخرج منها...ويوصيني بكيت ويحذرني من كيت حتى وصلنا الإدارة ودخل على " بومان " وقال له أنا قادم لتوقيع كفالة " ابني علي "... فأكبر الكل له هذه العاطفة... وقع الأوراق ثم عاد بي إلى صيدليته حيث سلمني بضع رسائل توصية إلى أصدقائه أساتذة الجامعة يوصيهم بي... ثم ودعني قائلاً " سر بسلامة الله موفقا... ولا تنس أنني دائما تحت أمرك..." رحم الله أنطون.. وأسكنه فسيح جناته... وطيب الله ثراه... ثرى الوطني الذي رفض أن ينزح عن القدس في كارثتها عام 1948 وقت أن هرب منها القادرون والكبار والأغنياء وصمم إلا أن يشاطر الفقراء مصيرهم هاتفاً... " لن أغادرها ... لن أغادرها ولو كان في ذلك حتفي ...".


شارك