المدينة بيروت

العائلة شعث

تاريخ الرسالة 27 مارس 1955

تاريخ النشر 24 فبراير 2024

message

 

27/3/1955

أيتُها الغاليةُ سميحة

 

حنيني وقُبُلاتي لكِ وللأبناءِ الأعزاءِ ودعائي إلى اللهِ الكريمِ أن يحفَظَكُمْ ويسعِدَكُم ويَشمَلَكُم بجميلِ رعايتِه.

 

كنتُ مُصَمِّمًا على عدمِ الكتابةِ إليكم طَوَالَ الرحلةِ لا لسببٍ إلا لرغبتي المُلِحَّةِ في أن أعيشَ وحيدًا مع نفسي هذهِ الفترةَ القصيرةَ أُسامِرُها وأُصَفِّي حسابي معها مُستعرِضِينَ معًا ماضينا القصيرَ بخَيْرِه وشرِّه، بمسرَّاتِهِ وآلامِه .. هذا الماضي الذي عشتُهُ قَلِقًا ثمانيةَ أعوامٍ أو تزيدُ بعيدًا عن الوطنِ العزيز.. إلى أن غلبني الشوقُ وهزمني الحنينُ إليكم يا أعزَّ الناسِ عليَّ وكُلَّ آمالي في الحياة؛ فأمسكتُ بالقلمِ ليُوصِلَ إليكم ما تفيضُ بهِ نفسي، وأعيشُ معكم لحظاتٍ من سعادةٍ وثوانيَ من طُمَأْنِينَةٍ ما أَشدَّ حاجتي إليها.

 

صليتُ فجرَ الإثنَيْنِ حاضرًا وقرأتُ ما تيَسَّرُ من كتابِ اللهِ الكريم، ثم انحدرتُ إلى المطارِ في الطائرةِ التي سارَتْ باسمِ اللهِ في الثامنةِ مُيَمِّمَةً شَطْرَ بيتِ المقدِس.. قلبِ الوطنِ الغالي .. وأنا أُرَدِّدُ قولَه تعالى: "سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ" .. أُرَدِّدُها وأنا أرْكَبُ الهواءَ وأشُقُّ الأَجْواءَ قُدُمًا نَحْوَ المسجدِ الأقصى في يومِ إسراءِ الرسولِ الكريم .. فما أسْعَدَنِي مُسْلمًا عربيًّا يُوَجِّهُهُ اللهُ وِجهَةَ الوطنِ العزيزِ ومسجدِهِ الأقصى كما وَجَّهَ من قبْلُ رسولَهُ الكريم.. وما أعظمَ حظِّي غائبًا يعودُ لوطنِه الحبيبِ في يومٍ سعيدٍ مبارك.

 

نعم.. ها أَنَذَا أعودُ يا سميحةُ إلى وطنِي الحبيبِ بعدَ أن غِبتُ عنهُ حِقبَةً طويلَةً تكادُ تبلغُ التِّسْعَ سنواتٍ عَصَفَتْ خِلاَلَهَا بهِ العواصفُ العاتِيَة.. نعم ها أَنَذَا أعودُ إلى وطني المُجَزَّإِ المُحَطَّمِ ، الذليلِ المُثْخَنِ بالجراحِ لأراهُ حزينًا ، مُنَكَّسَ الرأسِ بعدَ أن جرَّدَهُ عدوُّنا من يافا واللِدّ والرَّمْلَة وصَفَدْ وحيفا والناصرة – مَرَابِعِ الطفولةِ ومسارحِ الشباب.. فما أَشَدَّ مرارةَ عودَتِكَ يا عليّ! وما أقساها على نفسِكَ التي كثيرًا ما مَنَّيْتَهَا بيومِ النصرِ وساعةِ الخلاصِ والتحرُّر.. يا لَسُخْرِيَةِ القَدَرْ! ها أَنَذَا أخيرًا أرى الذي كنتُ أخشى أن يكون! .. أرى إسرائيلَ العَدُوَّ البغيضَ والحُلْمَ الذي تَحقَّق.

 

هبطتِ الطائرةُ في العاشرةِ والنصفِ على أرضِ الوطنِ في قَلَنْدِيَه، ونزلتُ منها لأَسِيرَ على غيرِ هُدًى نحوَ أبنِيَةِ المطارِ مُثقَلًا بالذكرياتِ الأليمةِ – ذكرياتِ الماضي القريبِ – حيثُ لقِيتُ أحمدَ فأَخَذَنِي في سيارةٍ إلى القدسِ دَرَجَت بنا في الطريقِ القديمِ الذي تعرِفِينَه.

ها نحنُ نَمُرُّ بأشجارِ الزيتونِ الخضراءِ وبالمُنْحَنَيَاتِ ثُمَّ ببقايا مُستَعْمَرَةِ " نفيِ يعقوبَ " فنقرَأُ الفاتِحةَ على رُوحِ الصديقِ فايز المُهتدى الذي سقطَ صَريعًا عندَ المُنحَنَى أمامَ المُسْتَعْمَرَة.. وأخيرًا ها هيَ القدسُ ندخُلُها من الشيخِ جرّاح إلى مدرسةِ المُطرَان مُتَسَتِّرِينَ – طَوالَ الطريقِ – بجِدَارٍ من الحِجَارَةِ الصَّلْدَةِ والأَسْمَنْتِ على يمينِ الطريقِ، بُنِيَ لِيَحْجُبَ خَلفَهُ القِسمَ اليهوديَّ ويكونَ دِرْعًا يقي المارَّةَ من رَصَاصِ اليهود.. تُرَى هل تستطيعينَ أن تتصوري ذلك؟
 الطريقُ الواحدةُ في المدينةِ مقسومةٌ إلى قِسْمَيِنِ يفصِلُهُمَا حائطٌ – أحَدُ جانِبَيْهِ لإسرائيلَ والآخَرُ " مع الخِزْيِ " للعَرَبِ المساكين
! ..

 

وصلنا بابَ السَّاهِرَةِ فاسْتَأْذَنُتُ أن أذهبَ مُنْفَرِدًا إلى مقبَرَتِهِا لأزورَ الأبْرارَ الثلاثة. انحدَرْتُ نَحْوَ الرَشِيدِيَّةِ ووقفتُ دقَائِقَ عِنْدَ بابِها لأَذْكُرَ أيامَ طفولتي فيها منذُ خمسةٍ وثلاثينَ سَنَةً !.. ذكرتُ الحديقةَ التي ذَهَبَتْ، والصفوفَ التي عشتُ في أجوائِها سنواتٍ، بل وذَكَرْتُ " الرُّكْنَ الهادي " الذي كنتُ أقضي الظَهِيرَةَ في ظِلِّ حيطانِهِ أنا ورِفَاقي، وما أُنْبِتَ فيها من زهورٍ بَرِّيَّةٍ شَتَّىً ألوانُها .. ونلتَهِمُ ما نجدُهُ من" الخُبِّيزَةِ " لِنَسُدَّ بها بعضَ الجوعِ الذي كانَ
 1918
.

ثُمَّ دُرْتُ نحوَ مَدْخَلِ المدينةِ القديمةِ – بابِ الساهِرَةِ نَفْسِهِ – فانتَفَضَتْ أمامي ذكرياتُ المظاهراتِ والاضطراباتِ منذ 1921 (ألفٍ وتسعُمِئَةٍ وواحدٍ وعشرين) ثُمَّ مواكِبُ أعيادِ النبيِّ موسى التي كُنَّا نَبُحُّ أصواتَنَا خِلاَلَها هاتِفِينَ "بِحَيَاةِ الوَطَنِ" و "سُقُوطِ الصَهاينة "!...

دخلتُ المقْبَرَةَ .. فَهَالَنِي ما فيها من هدوءٍ رَهيب.. وأَخَذَ بِمَجَامِعِ قلبي ما أحاطَ بها من جلال .. وصلتُ القِمَّةَ وإذا بي أمامَ أحبائِنَا وأَعِزَّائِنا .. الوالدِ والوالِدَةِ ورُشدي .. تَحْنُو على قُبُورِهِم شجرةُ نَخِيلٍ باسِقَةٍ وشَجَرَةُ سَرْوٍ فارِعَةُ الطولِ قويَّةُ العُودِ كثيرةُ الظِلّ .. يا رحمةَ اللهِ عليكُم .. وفي جَنَّاتِ الخُلْدِ أنتُم يا أحبابَنَا الراحلين! .. قرأتُ الفاتِحَةَ مرَّاتٍ وطُفْتُ بالقَبْرَيْنِ وجلستُ بينهُمَا أتَحَدَّثُ إليهم وكأنهم أحياءُ يُرزَقُونَ، فاطْمَأَنَّتْ نفسي بعدَ شَقاءٍ وهَدَأَتْ بعدَ اضطراب.

 

مسكينةٌ الوالدة .. لقد تفَجَّرَتْ قُنْبُلَةٌ يهوديةٌ بالقُرْبِ من قبرِهَا فأصابتها ثلاثُ شَظَايَا ترَكَتْ آثَارًا واضِحَةً في الضريح. قَبَّلْتُ هذهِ الحُفراتِ الطاهِرَةَ وقُلتُ لها" لا بَأْسَ عَلَيْكِ يا أُمَّاه.. إنّها أَوْسِمَةُ شَرَفٍ لم يُتِحْ لَكِ القَدَرُ أن تَنَاليها في الحياة، فَنِلْتِهَا شريفةً مُشَرَّفَةً في الممات. ما أسْعَدَكِ مُكَافِحَةً مُنَافِحَةً في حياتِكِ ومَمَاتِك.

 

مسكينٌ رشدي .. إنّه في قبرِه من سبعةٍ وعشرينَ سَنَةً .. ماتَ في رَيْعَانِ شبابِه وكان مِلءَ السمعِ وملءَ البَصَر .. فتى قَوْمِهِ الأوّل .. وفارِسُهُمْ في خَلْقِهِ وَخُلُقِهِ وسُمْعَتِهِ ووَطَنِيَّتِهِ وعِلْمِه .. لقد نُقِشَتْ على قبرِهِ هذه الكَلِمَةُ التي أقرَأُها " ما طُولُ الحياةِ بعدَدِ سِنِيِّهَا بل بِتَنَوُّعِ الأعمالِ والآمَالِ في مَداها". هذه بالضَبْطِ رِسَالَتُكَ في الحياةِ يا رُشدي .. لقد عِشْتَ حياةً قصيرةً بالسنواتِ لكنّها طويلةٌ عريضةٌ غنِيَّةٌ بما عَمِلْتَ خِلالَها. نَمْ هانِئًا فَقَدْ أَدَّيْتَ واجِبَكَ ورَحمةُ اللهِ عَلَيْك. ما أسعَدَكَ بين والِدَيْكَ!

 

أمّا أنتَ يا والدي، فلَنْ أنسى دَهْرِي أنَّكَ كُنْتَ أستاذِي الأّوَّلَ في المُحافَظَةِ على الكرامةِ والأَنَفَةِ، وفي قُوَّةِ الكِفَاحِ وفي الصَبْرِ على المَكَارِهِ والإيذاءِ حتّى لو جاءَ الإيذاءُ من أقْرَبِ الناسِ إليك. لن أنسى ذلك أيُها الأبُ الكريمُ، ورحمةُ اللهِ علَيْك.

أتْمَمْتُ جَوْلَتِي ثُمَّ خَرَجْتُ لأسعى في المدينةِ أُنَاجِيهَا بَعدَ غيابٍ طويل.. دَلَفْنَا أنا وأحمدُ للمدِينَةِ من بابِ الأَسْبَاطِ مُخْتَرِقِينَ الشارِعَ إلى الوادِ ثُمَّ دخلنا الأسواقَ فوَجَدْنَاها تَعُجُّ بِالوَافِدِينَ وتَتَلَأْلَأُ بالأنوارِ الكَهْرُبَائِيَّةِ إكرامًا للمِعْرَاج.. والكلُّ مُنْهَمِكٌ في شِراءِ " حَلْوَى المُشَبِّكِ " من بَاعَتِهَا.. ما أشْبَهَ الليلةَ بالبَارِحَة! إنَّنِي أَجُولُ في المدينةِ جَوْلَتِي فيها مُنْذُ خمسةٍ وثلاثينَ سَنَةً ليالي المِعْرَاجِ نَحْمِلُ الصَّوَانِي لِنَمْلَأَهَا بأقراصِ المُشَبِّكِ الذي لا يُصنَعُ إلّا في هذهِ المُناسبةِ المُبارَكة، وأحمِلُ الفَوانيسَ المُشَعْشِعَةَ وأَدْلِفُ مَعَ والِدَتِي وشقيقتي لِنُشَاهِدَ المِعْرَاجَ وأنوارَهُ ..

 

دَخَلْتُ الصخرةَ المُشَرَّفَةَ – المكانَ الذي هبطَ فيهِ الرسولُ الكريمُ ليلةَ المِعراج .. فصَلَّيْتُ للهِ الكريمِ مع الجُموعِ الحَاشِدَةِ ثُمَّ استَمَعْنَا لقِصَّةِ المِعراجِ وخرَجْنَا في نَحْوِ التاسعةِ والنِصْفِ مَسَاءًا بعد أن صَبُّوا عليْنَا "المزهر والمورد"  ..

 

شَرِبْنَا القَهْوَةَ وأَكلنا الكُنافةَ ثم تابَعْنَا السَّيْرَ إلى قلقيلية فرأينا هُنَاكَ عَجَبًا .. إنّها على الخَطِّ الأماميِّ تمَامًا .. حُدُودُها مُحاذِيَةٌ لحُدُودِ إسرائيلَ بَيْنَهُما بِضْعَةُ أمتارٍ .. لقد رأيتُ إسرائيلَ ومُدُنَ إسرائيلَ ومُستَعْمَرَاتِها وحُصُونَها الحربيَّةَ، ورأيتُ كيفَ يستمتِعُ القَوْمُ ببيارات أهل قلقيلية تحتَ سمعِ الكُلِّ وأبصارهم .. تجوَّلْنَا بسيَّارَتِنَا حتى حاذَيْنَا خَطَّ الحُدودِ وصِرْنَا تَحْتَ رحمةِ حُرَّاسِهِم ونِيرانِ بَنَادِقِهِم ثُمَّ دَخَلنَا المدينةَ إلى بيتِ أبو فاروقْ وتناوَلْنَا الغَداءِ وعُدْنَا والأسَى يَمْلَأُ أفئِدَتَنَا وجوانِحَنا. مساكينُ أهل قَلْقِيلِيّة إنَّهُم يعيشونَ بأعصابِهِم التي كادَتْ تَتَحَطَّمُ إذ أنَّهُم مُهَدَّدُون باحتلالِ إسرائيلَ لهُم في أيةِ لحظَةٍ، وهُم لولا وَطَنِيَّتُهُم وإيمانُهُم الشديدُ بِحَقِّهِم وحِرْصِهِم على الدفاعِ عن أرضِ آبائِهِم بأرْوَاحِهِم لتَرَكُوا قَرْيَتَهُم مُنْذُ سنواتٍ إذ أنَّهُم في الحَقِيقَةِ في جَحِيمٍ مُستَمِرٍّ وتَهدِيدٍ أبَدِيٍّ مُحَطِّمٍ للأعصاب.

 

عُدْنَا إلى رامَ الله عن طريقِ نابُلْس وسَهِرْنَا وتَنَاوَلْنَا العَشاءَ وسَمِعْتُ قِصَصًا مُؤْلِمَةً عن القُرَى التي في الخُطوطِ الأماميّة. تَصَوَّرِي أنَّ هُناكَ قريةً على الحدودِ يَقَعُ جامِعُهَا في المِنْطَقَةِ العربيّةِ أمَّا مَقْبَرَتُهَا ففي المِنطَقَةِ اليهودية! وبهذا يُصَلُّونَ على المَوْتَى في المِنْطَقَةِ العربيَّةِ ويَدفِنُونَهُم في المِنْطَقَةِ اليهوديَّة. كما أنَّ قَرْيَةَ "برطع" بالقُرْبِ من يَعْبُد مقسومةٌ إلى نِصْفَيْنِ عربيٍّ ويَهُودِيٍّ ولها مُختارٌ واحِدٌ يَتْبَعُ الدولتينِ إسرائيلَ والأردنَ في آنٍ واحدٍ.  وأَدْهَى من كُلِّ ذلِكَ أنَّ في بيتِ صَفَافا مَنازِلَ يَقَعُ نِصفُ أحدِهَا في المِنْطَقَةِ اليهودِيَّةِ والنصفُ الآخرُ في المِنْطَقَةِ العربيةِ بحيثُ لا يستطيعُ الأخُ أن يُكَلِّمَ أُختَهُ في المِنْطَقَةِ الأُخْرَى وبينَهُمَا مسافَةٌ لا تزيدُ عن الأربعةِ أمتار!

 

إذا قُلتُ لكِ يا سميحةُ "وحشتوني" .. فما أنا واللهِ بمُسْتَطِيعٍ أنْ أُعَبِّرُ بهذهِ الكَلِمَةِ العامِّيَّةِ البليغةِ عمَّا تَفِيضُ بِهِ جَوَانِحِي ويَعْتَلِجُ في نَفْسِي من شَوْقٍ حَبِيبٍ مَرِيرٍ إليكُم .. شَوقي شديدٌ يا سَمِيحَةُ إليكِ وللصِّغَار. قَبِّلِيهِم واحدًا واحدًا وسَلِّمِي على الجميعِ واللهُ يحفَظُكِ.

 

زوجُكِ: علي شَعْث.


شارك